(وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه اللأواء والشدة على ما لم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين صلوات الله وسلامه عليه).فأما ما أعطاه الله تبارك وتعالى، وما وسع عليه؛ فإنه هو باختياره صلى الله عليه وسلم اختار غيره، ولو شاء لجعل الله تعالى له بطحاء
مكة ذهباً وفضة، ولو شاء لنوله كنوز كسرى وقيصر، وقد جاءته الجزية من
هجر من
البحرين ، وقد غنم غنائم
خيبر وغيرها، فلو شاء لتوسع في الدنيا؛ وذلك حلال له، وخيره الله وأعطاه، لكنه صلى الله عليه وسلم اختار الحالة الأخرى وهي: التقلل من الدنيا، والتخفف منها، فجمع الله له بذلك بين أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين؛ مع ما أصابه قبل ذلك من اللأواء والشدة والابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، كما فعل به عندما ذهب إلى أهل
الطائف ابن عبد ياليل، وكما كان قريش تفعل به في المواسم، ويشتمونه عنه، ويقولون عنه: مذمماً، ويقولون: الصابئ، ويقولون: الأبتر، ويقولون غير ذلك.وكذلك ما لقي صلى الله عليه وسلم في الشعب عندما حصر فيه هو وأصحابه، كما قص ذلك
سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وغيره كما في الصحيح، وكذلك ما لقي أيضاً صلى الله عليه وسلم في غزواته، فإنه غزا غزوات كثيرة في شدة الفقر، وربما كانت أيضاً في شدة الحر، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات يأكلون فيها الجراد كما ثبت ذلك في الصحيح. ثم غزا عام
تبوك ، وقد كان فيه من اللأواء والشدة ما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم عندما قال المنافقون: ((
لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ))[التوبة:81]، وقال: ((
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ))[التوبة:42]، ففيه بعد الشقة، وفيه شدة الحر، وفيه مقاومة عدو هو أعتى وأقوى من على ظهر الأرض يومئذ، فإن أقوى الأمم في ذلك الزمان هما دولتا الفرس والروم، ثم إنه في تلك الأيام في آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم كانت دولة الروم قد غلبت دولة الفرس، فأصبحت أقوى دولة في الدنيا، وقد تحقق فيهم قول الله تبارك وتعالى: ((
الم * ((
غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ))[الروم:1-4]، فكانت هذه أول ما بشر الله تبارك وتعالى به المؤمنين.وقد نزلت الآيات عندما دالت وغلبت الروم، وقد غلبهم الفرس، ودخلوا إلى
أنطاكية إلى بلاد
الشام ، ثم جعل الله تبارك وتعالى الكرة للروم، فلكم أن تتخيلوا أي لأواء، وأي شدة تصيب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يعانون ما يعانون من الفقر ومن الحر، حتى إن البعض منهم كانوا يتناوبون على البعير الواحد، ومنهم من لم يجد ما يركبه، ومنهم من رجع، كما ذكر الله سبحانه وتعالى: ((
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ))[التوبة:92]؛ لأنهم لم يجدوا ما يحملهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج بعد ذلك لمحاربة دولة هي في أوج انتصارها، وفي عز قوتها، فهذا كله احتسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات الله، وتحمله، فنال بذلك أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه أجمعين. يقول: (وكان سابقاً في حالي الفقر والغنى لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما كبعض أصحابه وأمته)، وقد تقدم في الحديث الذي رواه
البغوي : (
إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك ).فهذا لا ينطبق على النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وخيار أصحابه، فهم في حال الغنى وفي حال الفقر أمرهم مستقيم، فيصلح لهم الحالان، وعلى هذا جاءت عبارة
عمر رضي الله تعالى عنه التي ذكرها الشارح، وهي منقولة من كلام الشيخ هنا، قال: (الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما ركبت). إذاً: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وخيار أصحابه في الغنى في أعلى الدرجات، وفي الفقر في أعلى المقامات، ولا يبالون بأحدهما، ولا يفضلون أحدهما تفضيلاً مطلقاً.